لا أظن أن هناك من يجهل الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله – فسمعته قد بلغت الآفاق.
وقد كان رائداً في نشر فقه السنة ولقد اهتم بالتأليف وتحرير الفتاوى والأجوبة التي تميَّزت بالتأصيل العلمي الرصين.
وصدرت له العشرات من الكتب والرسائل والمحاضرات والفتاوى والخطب واللقاءات والمقالات (اقتباس من موقع الشيخ).
أسوق إليكم شيئاً من بديع فقهه لعل الله تعالى أن ينفعني وإياكم به، فقد جاء في فتاوى نور على الدرب - (4 / 186) السؤال التالي :
حفظكم الله:
فضيلة الشيخ في زماننا هذا كثرت الشركيات وكثر التقرب إلى القبور والنذور لها والذبح عندها كيف يصحح المسلم هذه العقيدة؟
(قلتُ في نفسي عند قراءتي للسؤال: سائل يسأل شيخاً من مشايخ دعوة التوحيد فلا بد أن يحذر الشيخ من الشرك وخطره!! ولكن لنقرأ ماذا أجاب الشيخ رحمه الله):
الجواب، الشيخ:
أولاً ندعي هذا السائل بصحة دعواه، أنا في ظني أن هذا الوقت هو وقت الوعي العقلي وليس الشرعي الوعي العقلي قلّ الذين يذهبون إلى القبور من أجل أن يسألوها أو يتبركوا بها اللهم إلا الهمج الرعاع هؤلاء من الأصل، فعندي أن الناس الآن استنارت عقولهم الإدراكية لا الرشدية فالشرك في القبور وشبهها في ظني بأنه قليل لكن هناك شركٌ آخر.
وهو " محبة الدنيا " والانهماك فيها والانكباب عليها فإن هذا نوعٌ من الشرك قال النبي صلى الله عليه وسلم تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم تعس عبد الخميصة تعس عبد الخميلة فسمى النبي صلى الله عليه وسلم من شغف بهذه الأشياء الأربعة سماه عبداً لها فهي معبودةٌ له أصبح الناس اليوم على انكبابٍ بالغ على الدنيا حتى الذين عندهم شيء من التمسك بالدين تجدهم مالوا جداً إلى الدنيا.
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم والله ما الفقر أخشى عليكم وإنما أخشى أن تفتح عليكم الدنيا تتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم، هذا هو الذي يخشى منه اليوم، ولهذا تجد الناس أكثر عملهم على الرفاهية وهذا فيه ترفيه وهذا فيه نمو الاقتصاد وهذا فيه كذا وهذا فيه كذا قلَّ من يقول هذا فيه نمو الدين هذا فيه كثرة العلم الشرعيز
هذا فيه كثرة العبادة قلّ من يقول هذا فهذا هو الذي يخشى منه اليوم أما مسألة القبور ففي ظني أنها في طريقها إلى الزوال (قلت: قد يكون قصد الشيخ في عصرنا هذا – عصر الوعي العقلي – وإلا فالشرك باق الى يوم القيامة كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم) سواءٌ من أجل الدنيا أو من أجل الدين الصحيح. انتهى. ولا مزيد على كلام الشيخ رحمه الله فقد كفّى ووفّى.
فالدنيا الآن هي معبودة أغلب الجماهير، والدنيا ليست هي كائناً حيّاً اسمه الدنيا ويشار إليه بالبنان، بل هي مظاهر ومعان تتمثل بـ: حب الشهوات من النساء.... كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].
فما أهلك أغلب الناس في يومنا هذا إلا حبهم وحرصهم على الدنيا وزينتها، فهذا صاحب سلطة وسلطان أو صاحب تجارة ومال أو صاحب لهو وشهوة محرمة يبيع كل شيء - ولو كان هذا الشيء هو مقدسات الأمة وحرماتها - في سبيل البقاء في منصبه وكرسيه أو في سبيل المحافظة على تجارته ونماء ماله أو في سبيل النيل من شهوته المحرمة، فلا مقدس عنده سوى ما يمليه عليه هواه!!!
وهذا يصدّقه قول النبي صلى الله عليه وسلم ، فعَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزِعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِى قُلُوبِكُمُ الْوَهَنَ» فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهَنُ؟ قَالَ «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ».
وعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعِينَةِ وَأَخَذْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَرَضِيتُمْ بِالزَّرْعِ وَتَرَكْتُمُ الْجِهَادَ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ذُلاًّ لاَ يَنْزِعُهُ حَتَّى تَرْجِعُوا إِلَى دِينِكُمْ». رواهما أبو داود وصححهما الألباني، فالدنيا بزخرفها وزينتها أعظم ما حمل الكفار على الكفر بالله.
كما قال تعالى: {اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآَخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [إبراهيم: 2- 3]، وقال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ} [الأنعام: 130].
وهي السبب الرئيس في حمل من آمن بالله على الردة والكفر بعد الايمان كما قال تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [النحل: 106- 107].
فالخوف من ذهاب الدنيا والسلطان، والخوف من ضياع الأموال والتجارات، والرغبة في التمتع بشهوات الدنيا وزينتها حمل كثير من الناس على الكفر بالله تعالى أو التفلّت من أحكام الشرع، وللمزيد حول الموضوع أنصح بقراءة مقالي الموسوم بـ "خدعوك فقالوا: "الدين لا يعمر دنيا ولا يشبع من خبز" على الرابط التالي: http://www.almoslim.net/node/118814.
ولا حول ولا قوة إلا بالله وثبتني الله وإياكم على البر والتقوى..
الكاتب: خالد بن صالح الغيص
المصدر: موقع المسلم